بشكل ما، أصبحت تلك الخطوات الثقيلة من الماضي. أستطيع الآن أن أنظر إلى الوراء، لأجد آثار أقدامي فوق الأرض، وقد مرَّت بكل تلك الذي لم أحسب يومًا أنني أستطيع اجتيازه، وحدي.
كل ما كنت أخشاه، كل ما بكيت من أجله، كل ما أرَّق نومي وأجهد جسدي وأرهق عقلي وآلم روحي، مررت به تمامًا كما كنت أعد ألا أمر به. في لحظاتِ -أكاد أقسم بالواحد الأحد أنها كانت لحظات بالفعل- مضت، لست أقول الأيام أو الشهور، بل السنوات، لأجد نفسي بين عشية وضحاها في المكان الذي لطالما كنت أنظر بإعجاب إلى كل من وصل إليه، أيًا ما كان حاله فيه، ها أنا ذا، أنظر بإشفاقِ لتلك المسكينة متخبطة الخطى ومتلعثمة الحديث، وأتمنى لو أستطيع أن أكتب لها رسالةَ، أخبرها بأن كل شيء يمضي، كل شيء يمر، وفي النهاية ما يهم فعلًا هو كيف عِشنا. من يغفل عن أمر الساعة لن تغفل عنه هي. الحياة طويلة جدًا حد الشيب وقصيرة جدًا كالعطسة.كل ذاك الألم يتضاءل حتى يختفي، ولا يتبقى منه ذكرى تذكر، كل ما يتبقى هو كيفما شعرنا تجاه العمر الذي مضى إلى غير رجعة.
كل ما تخافي منه الآن يا فتاتي، ستطويه الأيام، وستصبح لديكِ مخاوف أكبر، تطويها الأيام أيضًا، فلو أننا كل ما نخشاه نتجاوزه في النهاية، بأي شكل، فما الداعي لأن نستنزف أنفسنا من البداية؟
تنفلت من بين أصابعي حكاياتي التي لا أرويها لأحد، ولا أكتبها. وكأن القدر يريد أن يعطيني درسًا ما، بل ويكرره حتى أستوعبه، وبما أنني مازلت لا أفهمه، أعلم بأنه سيتكرر.
لست من أصحاب العلاقات السوية، لم أكن يومًا ولن أكون.
على مدار أربعة وعشرين عامًا وأربعة أشهر، لم يبق إلى جانبي أستند إليه إلا الحزن. بقدر ما كنت أحاول الهرب منه طوال الوقت، أعيش مأساة إغريقية بسببه، بقدر ما أحترمه الآن وأدرك فضله. أدرك أن الحزن مهم بقدر السعادة. وأنه لا يوجد ما يسمى بالسعادة المُطلقة. وأنه لا تستقيم الحياة إذا ما كنت ليل فقط، أو نهار فقط، لابد من ليلٍ ونهار وتوازنٍ بينهما، كذلك لابد من فرحٍ وحزن، نعطي كل منهما حقه، ونعيش كل منهما كما يجب، نصون حقهما في عدم إهدارهما بالضحك السفيه أو البكاء والعويل. ألا ننتقص من الحزن بالشكوى -لإستجلاب الصعبانية-، وألا نفزع حين نحزن.
...
"يا من تغرينى بحنان صادق .. فلتحذر،
فبقدر شعورى بحنانك:
سوف يكون دفاعى عن حقى فى الغوص الى جوف الكهف،
وبقدر شعورى بحنانك:
سوف يكون هجومى لأشوِّهََ كلَّّ الحبِّ وكلَّ الصدق،
فلتحذرْ
إذ فى الداخلْ
وحشٌٌ سلبىُّ متحفزْ
فى صورة طفل جوعان
وكفى إغراء
وحذارِ فَقَدْ أطمعُُ يوما فى حقى أن أحيا مثل الناس
فى حقَى فى الحبْ
ألبس جلدى بالمقلوبْ
فلينزف إذ تقتربوا
ولتنزعجوا
لأواصلَ هربى فى سرداب الظُّلْمةْ
نحو القوقعة المسحورة
لا تقتربوا أكثر
إذْ أنِّى ألبس جلدى بالمقلوب،
حتى يُدمى من لمس الآخر
فيخاف ويرتدْْ
إذْ يصبغ كفيِه نزف حىّ
وأعيش أنا ألمى،
أدفع ثمن الوحدة"
د. يحيى الرخاوي
...
جوايا حتة ضلمة كبيرة، أو زي ما قالت ليلى علوي في حب البنات "كلكوعة مكعبرة قد كده."، كنت مبعرفش أقرَّب منها ولا ألمَّح ليها.. مبعرفش أحكي عنها ولا أواجهها، ولا حتى بيني وبين نفسي.
الحتة دي كانت بتكبر معايا، بتوسع، بتاكل حتت من روحي، وأحيانًا من روح الناس اللي بتحاول تقرَّب مني.. بتخليني أروح في طُرق أنا مش عايزاها .. وأبعد عن النور علشان متتكشفش، علشان متتأذيش فتأذيني.
دلوقتي بقيت قادرة أنوَّر أجزاء منها، أحكي وأسمِّي الحاجات بأساميها، أوصف التفاصيل الصغيرة، أعبر عن تأثيرها عليا، بشجاعة متعودتش عليها أبدًأ. مبقيتش مكسوفة إن عندي عُقد في حياتي. اللي يكسف إني مقدرش أتخطاها، لكن أنا بأعمل ده حتى لو بخطوات بسيطة. مش كل الناس بتقدر تتفهم ده، أغلبهم بيحكم، أو بيتصعبن -وذلك أضل سبيلًا-.
يفضل إيه؟ الساعات القليلة اللي بأخرج فيها بره السجن اللي عملته لنفسي، فألاقي نفسي جوه سجن مختلف، وأكتشف إن السجن الكبير بتاعي هو الحياة نفسها. أنا مسجونة في الوجود. رافضة الكينونة ولا دخلتها برجليا ولا كان ليا ميل.
...
كم نحن مُفسَدون. نقع في الحب مع من يؤذينا، ونركل من يظهر لنا إحترامًأ. نقدم القرابين لمن يرجمنا بلسانه، ولا نلقي بالًا لمن يهتم بنا حقًا.
لو أنني أعرف كل ما يعيبك، وكل الفوضى الساكنة بقلبك، ومازلت أحبك، ألا أكون بذلك أحق بأن تبادلني ذلك؟